لفتني قول أحد اللبنانيين العاملين في دولة الإمارات انه عندما كان يقيم في لبنان كان خائفاً منه، ولما صار في بلد آخر أصبح خائفاً عليه.
هذا اللبناني ذو النظرة الفلسفية يختصر واقع الوطن بريشة الرسام البارع. فقد كان يخاف من لبنان، أثناء وجوده فيه. كان يخاف من النظام الطائفي، والجنوح المذهبي، وفلسفة الرشوة الضاربة الأطناب في دوائر الدولة. وكان الرئيس سليم الحص ــ شد الله عافيته ــ يقول بظرفه المعهود: <إذا كان دفع المال للموظف المرتشي يتم قبل انجاز المعاملة، فهو رشوة، أما إذا كان الدفع يتم بعد انجاز المعاملة فهو اكرامية>.
والخوف الذي اعترى المواطن اللبناني الموجود في الخليج سببه جفاف فرص العمل، واضطرار آلاف الشبان الى طلب الرزق في الخليج، أو في افريقيا، أو في استراليا التي يمكن أن تسمى الآن: لبنان الآخر، تقابلهم آلاف الفتيات اللواتي هن في سن الزواج، ومعهن أزمة عرسان!
والخوف أيضاً ناجم من الفساد المستشري في سوق الدواء. فها هو وزير الصحة وائل أبو فاعور يطلب إحالة متهمين بارتكاب غش وتزوير في شريحة من الأدوية على التحقيق المالي والجنائي، على أساس ان الدواء المغشوش يمكن أن يتسبب في قتل انسان!
أما الخوف على لبنان، فله حديث آخر.
والخوف على لبنان يأتي أيضاً من سلوكيات بعض السياسيين، وأولهم النواب الذين يعطلون النصاب البرلماني المطلوب لانتخاب رئيس جديد. والرد الذي جاء على هذا التعطيل الدستوري من العماد ميشال عون في مؤتمره الصحفي ظهر الاثنين الماضي، لم يكن هو الدواء الشافي، بل ادخل لبنان من جديد في اللعبة الطائفية، عندما طلب في مشروعه <الانقاذي> انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، مثل مصر، وتونس وموريتانيا، وهي دعوة لا غبار عليها من حيث المعنى الديموقراطي، ولكن الغبار جاء من جعل الانتخاب مرحلتين: مرحلة ينتخب فيها المسيحيون اثنين من المرشحين الموارنة، ومرحلة ينتخب فيها المسلمون والمسيحيون معاً الرئيس المطلوب. كلنا الآن نخاف على لبنان، وجحافل <داعش> التي أعلنت أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين، من خلال سطوتها المسلحة على أراض واسعة من العراق، مصدر لخوف المسيحيين، كما في لبنان كذلك في الشرق كله، وقد تأثرت بكلمة أطلقها بطريرك السريان الجديد مار اغناطيوس افرام في غداء تكريمي أقامه حبيب افرام، ودعا فيه المسلمين والمسيحيين الى التأهب لمواجهة الأخطار الداعية الى تفتيت المنطقة.
ــ أولاً يحق في هذا الباب انتخاب مرشح ماروني ثالث، أم ان سواد الناخبين اللبنانيين ملزمون بانتخاب واحد من المسيحيين الاثنين؟ وإذا كان الناخبون ملزمين بالاقتراع لأحد المرشحين المارونيين اللذين اختارتهما المرحلة الأولى، ألا يسمى هذا انتخاب اذعان، وليس انتخاباً ديموقراطياً؟ وهل ترى العماد عون قد نسي أن فتح باب الانتخاب أمام سن الـ18 سنة في المستقبل سيقلب مشروع العماد عون رأساً على عقب بالضغط العددي؟
الحق السليب للعماد عون!
أولاً: نتفهم الشعور المسيحي العام بالنسبة للانتخابات، رئاسية، وغير رئاسية. فأكثر النواب المسيحيين في الشمال والجنوب والبقاع، وحتى في بيروت، جاءوا في لوائح سيطر عليها الزعماء المسلمون، ولم يكن فيه للمسيحيين الذين يمثلونهم في اختيارهم يدان، كذلك فالكتلة الأكبر في مجلس النواب، وهي كتلة <المستقبل> يغلب عليها الطابع الاسلامي، وحين تمارس التصويت لرئيس الجمهورية في البرلمان، فهو تصويت بروح اسلامية. هكذا هو المفهوم.
ثانياً: نتفهم تماماً مشاعر العماد ميشال عون. فهو يشعر بأن حقه في الرئاسة انتزع منه خريف 1990، عندما أخرجته الطائرات السورية من قصر بعبدا، الى السفارة الفرنسية في الحازمية، حيث ظل لاجئاً ديبلوماسياً، حتى سفره الى باريس، وسكنه في منطقة <هوت دو فوا>، وهناك قمت بزيارته وأدركت مدى المرارة التي يعيشها الرجل جراء سلبه حقه بهيمنة نظام الوصاية السوري الذي توغل الجنرال في عداوته زمن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، عندما هدد من الاذاعات بتكسير الرؤوس!
وطبيعي ألا يهنأ بال للجنرال ولا تغمض له عين، إلا بالثأر من عملية انتزاع حقه، وكأنه بذلك <مونت كريستو> آخر في رواية <الكسندر دوماس>!
والجنرال الذي حصد في الانتخابات البرلمانية عام 2009، أكبر مقدار من أصوات المسيحيين في كسروان والمتن الشمالي وجبيل وجزين، على قناعة بأنه الأحق بكرسي رئاسة الجمهورية، وان كلمة
واحدة من الرئيس سعد الحريري زعيم أكبر كتلة برلمانية اسلامية، تكفي لتنصيبه رئيساً، واستعادة حقه الضائع عام 1990. ولكن الرئيس الحريري الذي لم يقل <لا> للجنرال حتى الآن لا يملك المقومات السياسية التي تسمح له بأن يقول: <نعم للجنرال عون>، فهناك اعتبارات اقليمية دولية ينبغي أخذها في الحسبان.
ولو هدأت النفوس، واتسعت الرؤية، لكان صاحب الكلمة الفصل في هذا الموضوع هو البطريرك بشارة الراعي الذي لا بد أن يكون الى جانب المرشح الذي يرضي المسيحيين، ولا يزعج المسلمين، ولكن البطريرك الراعي هو أيضاً لا يريد أن يزج بكركي في اختيار اسم واستبعاد اسم آخر، لأن بكركي هي لجميع المسيحيين.
ما هو المخرج إذن؟
ظل <داعش> في انتخابات الرئاسة!
الناخب الأكبر لرئيس الجمهورية الجديد هو أحداث المنطقة، ولا نغالي إذا قلنا ان لخلافة أبو بكر البغدادي، زعيم <داعش>، دورها في التأثير على معركة الرئاسة، ولو من باب انتظار ما ستؤول إليه دعوة الخلافة، ومعارك الكر والفر بينه وبين الجيش العراقي المدعوم بطائرات أميركية بدون طيار، وقوة مساندة أمنية ولوجستية من إيران.
و<داعش> تزرع الخوف في نفوس شريحة واسعة من المسيحيين في لبنان، وترعبهم صور الاعدام التي نشرتها <داعش> في وسائل التواصل الاجتماعي، وترتعد لها الفرائص.. والخوف شعور انساني لا يحق لأحد أن ينكره. وقد شاعت عن الشيخ بيار الجميّل خلال حرب لبنان عام 1976 كلمات له تقول: <لا يكفي أن تقول للمسيحي لا تخف، بل يجب ألا يكون خائفاً بالأصل>.
فهل من داعٍ للخوف؟!
نعم. هو ليس خوفاً على المسيحي اللبناني، وهو صاحب عنفوان، بل هو خوف على لبنان، إذا لم تتجمع صفوف بنيه مسلمين ومسيحيين، وتتأهب لمواجهة الخطر، كما قال بطريرك انطاكية وسائر المشرق للسريان الارثوذكس آرام افرام الثاني، وأول بداية لرص الصفوف هي التسليم باكتمال النصاب البرلماني في الجلسة النيابية المقبلة لانتخاب رئيس الجمهورية. وإذا أضاع النواب هذه الفرصة، فإنهم بذلك يضيعون الأمل في قيامة لبنان.
وها هي الانجازات الأمنية لوزير الداخلية نهاد المشنوق، ومدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم، ومدير عام الأمن الداخلي اللواء ابراهيم بصبوص، ومدير مخابرات الجيش العميد ادمون فاضل، توفر للبنان جرعة أمنية، واسترداد للأنفاس، وفرصة للعودة الى الحياة العادية، مستعينين بطبيعة المواطن اللبناني الذي تعود أن يهزم الشدائد ولا تهزمه، وما أشبه الليلة بالبارحة، عندما كان صاحب المتجر في عز الحرب الأهلية يبادر الى اعادة اصلاح متجره الذي هزه انفجار، أو طاولته شظايا، مرة ومثنى وثلاثاً.
ولم يعد الاتكال على الوفاق السعودي ــ الإيراني ممكناً في الظروف التي نعيش، بعدما انكشف التدخل الإيراني في العراق، ونزوله بكل ثقله الى جانب الابقاء على نوري المالكي في رئاسة مجلس الوزراء، وعدم الاصغاء لنصيحة وزير الخارجية الأميركي <جون كيري> بتأليف حكومة وحدة وطنية. وما دام التوافق السعودي ــ الإيراني لم يأخذ مفاعيله حتى الآن، فمعركة رئاسة الجمهورية في لبنان مجمدة حتى اشعار آخر.
وإذا عقدت حكومة تمام سلام بصلاحيات رئيس الجمهورية العزم على استئصال الارهاب، فيجب أن تنطلق من المشاريع الانمائية في المناطق التي تسلل إليها الارهاب والتوتر، لتوفير فرص العمل، وتوسيع نطاق الضمان الصحي، ودعم المشاريع الاجتماعية، ونشر مشاريع الماء والكهرباء. فلو ان مغارة فنيدق التي تم اكتشاف المتفجرات في جوفها، لا تقع جغرافياً في منطقة محرومة، لما قيض للارهاب أن يصل الى هناك، لأن المواطن المكتفي معيشياً غير مستعد للمغامرة برزقه ورزق عياله، مهما كانت الاغراءات.
ولأن الدين النصيحة، فنصيحتنا ألا ينظر اللبناني من الآن فصاعداً الى الوراء، بل ينطلق في معارج المستقبل الآتي، معززاً كفاحه اليومي، وجناه الاقتصادي، حتى إذا جاء أي زلزال لا سمح الله، يكون الزلزال برداً وسلاماً عليه.. ولا يزيد الفقير فقراً!
إنها ساعة الوعي. وكما هو وعي مطلوب من المواطن، كذلك هو وعي مطلوب من أهل السياسة، ولاسيما أهل البرلمان، فلو ان استطلاعاً للرأي جرى الآن حول شعبية نواب البرلمان، لما حصد هؤلاء النواب أكثر من نسبة عشرين بالمئة..
أما الثمانون في المئة، فهم غاضبون من أهل السياسة، وأكثر النواب يدركون هذا الواقع، ويخافون من اجراء انتخابات برلمانية جديدة، ويميلون الى.. التمديد للبرلمان الحالي!
والحمد لله ان استطلاعات الرأي ليست دوارة في لبنان، وإلا لكان أكثر النواب يرون وجودهم في المرآة على غير ما يشتهون ويتمنون.