بقلم صبحي منذر ياغي
خلال الاحداث اللبنانية وفي عز الصراع، ورغم الانقسام الظاهري الذي اصاب مؤسسة الجيش اللبناني، بقي الجيش هو الامل لدى جميع اللبنانيين. ومع عودة السلام الى لبنان، ازداد تعلق اللبنانيون بجيشهم ، معتبرين انه خشبة الخلاص وان سلاحه هو فقط السلاح الشرعي الذي يحمي الوطن... وظل الجيش اسير التجاذبات ورهن السلطة السياسية التي يتحمل الجيش دوماً عثراتها وخلافاتها، ومع ذلك يواصل الجيش مسيرة الشرف والتضحية والوفاء ويقدم الشهداء في سبيل حفظ الامن وحماية السلك الاهلي.
<الصامت الأكبر>.. <الجيش هو الحل>... عبارات كثيرة ترددت في الزمن الماضي عند كل منعطف تتعرض فيه مؤسسة الجيش اللبناني للخطر، او لانتقادات سياسية، حتى اعتبر البعض ان الجيش صار مكسر عصا وفشة الخلق.. فالجيش اللبناني شكل ومنذ تأسيسه صمام الامان لوحدة المجتمع اللبناني، وهذا ما أثبتته الاحداث الاليمة التي عصفت بهذا الوطن، خصوصاً عند انقسام الجيش خلال الحرب الاهلية، لذا آمن اللبنانيون ان الجيش خط احمر، وهو رمز السيادة ورمز وحدة اللبنانيين..
يعتبر المؤرخون ان نواة الجيش اللبناني تشكلت منذ عهد فخر الدين القرن في 17 في وقت مبكر خلال إمارة لبنان(1516-1840). وجاء أول انتصار كبير في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1622 ضد العسكر العثماني في معركة مجدل عنجر. وخلال تلك الفترة ، تمتع لبنان بما يشبه الحكم الذاتي في زمننا، وكان لمتصرفية جبل لبنان جيشها المكون من ميليشيات المتطوعين.
<فرقة الشرق>
في العام عام 1916، شكّلت الحكومة الفرنسيّة <فرقة الشرق> ومنها تأسّس أوّل فوج من <القنّاصة اللبنانيّة>، وهو نواة الجيش اللبناني. قبيل إعلان استقلال لبنان في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943، ضُمّت القطع العسكرية اللبنانية المختلفة في وحدة كبرى هي اللواء الخامس. وبعد الاستقلال شكّلت الحكومة اللبنانية وفداً رسمياً لمفاوضة الفرنسيين حول تسلّم الجيش اللبناني. وبنتيجة المفاوضات، صدر عن هيئة أركان حرب القيادة المختلطة الفرنسية - الإنكليزية قرار قضى بانتقال الجيش اللبناني الذي كان عديده آنذاك 2676 رتيباً وجندياً باستثناء الضباط إلى كنف الدولة اللبنانية المستقلّة، وذلك اعتباراً من الساعة صفر من أول آب/ أغسطس العام 1945، وتمّ تعيين الزعيم فؤاد شهاب قائداً له، والزعيم سليمان نوفل رئيساً لأركان حربه. وفي هذا التاريخ، تمّ رفع العلم اللبناني بصورة نهائية على جميع المؤسسات الحكومية، وأقيم أوّل عرض عسكري للجيش اللبناني أمام وزارة الدفاع الوطني في بيروت، بحضور رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، وأركان الدولة كافّة.
وفي عام 1943، تمّ دمج أفواج القنّاصة والوحدات العسكريّة المختلفة، وشكّل أوّل لواء في تاريخ الجيش وهو اللواء الخامس بقيادة العقيد والزعيم فؤاد شهاب. عام 1945 وضمن المفاوضات التي تمّت بين الحكومة اللبنانيّة وسلطات الانتداب الفرنسي بشأن تسلّم المصالح المشتركة، تمّ الاتّفاق على نقل مسؤوليّة قيادة القوّات العسكريّة من الفرنسيين إلى الدولة اللبنانيّة.
ويرى الزميل مـنـصـور بـو داغـر انه في 1 آب/ أغسطس 1945 انتقلت رسمياً قيادة القوات المسلّحة اللبنانيّة إلى السلطات اللبنانيّة، واستمرّت تشكيلات الجيش العسكريّة موزّعة على أساس أفواج قنّاصة وعددها ثلاثة أفواج إلى أن تحوّلت في أوائل الثمانينات مع العماد ابراهيم طنّوس بشكل كامل إلى تشكيلات موزّعة على أساس الالوية وعددها 12. وقد تصدى الجيش اللبناني عام 1948 بواسطة فوج القنّاصة الثالث للقوّات الاسرائيليّة وطردها من قرية المالكيّة التي كانت جزءاً من لبنان حتى عام 1923 يوم ألحقت بفلسطين بعد ترسيم الحدود الجنوبيّة بين فرنسا وبريطانيا.
معركة المالكية
في الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى (1948)، كانت المالكية (البلدة الواقعة على مسافة نصف كلم من الحدود اللبنانية - الفلسطينية) عرضة لمعارك دموية كثيرة بسبب طمع اسرائيل فيها. وتروي الزميلة ريما ضومط وقائع هذه المعركة التي اعدت حولها بحثها الجامعي كيف انه وفي ليل الخامس عشر من أيار/ مايو 1948، شنّت القوات الإسرائيليـة هجومـاً خاطفاً للإستيــلاء على البلدة والتلال المحيطة بها، فسارعت قوات الجيش اللبناني إلى اجتياز الحدود حيث تصدّى الملازم أول في الجيش اللبناني محمد زغيب ورجاله للقوات الإسرائيلية وتمكّنوا من استرداد السيطرة على المالكية. وبحسب ما ذكرته وكالة «Associated Press> عن تلك المعركة، فإنه بعد أسبوعين تقريباً ابتكرت اسرائيل خدعة متطوّرة لاحتلال القرية من جديد. فبدأت أولاً بشن هجوم على حامية القرية .. ثم تسلّل رتل إسرائيلي داخل الأراضي اللبنانية مستخدماً طريقاً مجاورة، وقارب القرية من الوراء زاعماً أنه رتل التعزيزات اللبنانية. سارت القافلة في طريقها بأمان ومرّت بعدّة قرى لبنانية واستقبلها السكّان بسرور معتقدين أنها قافلة لبنانية... هاجمت القافلة المالكيّة واستعادت السيطرة عليها في الساعات الأولى من صباح 29 أيار/ مايو. وبعد حوالى أسبوعين، نجح الجيش اللبناني في استرداد القرية والتمسّك بها مدّة الصيف كله، إذ أنه وتحت غطاء جوّي من الطائرات الحربية الإسرائيلية وضغط الهجوم البرّي الذي شنّته أربعة ألوية إسرائيلية في إطار عملية «حيرام»، تمكّن لواء شيفع (السابع) من اجتياح القرية في أواخر تشرين الأول/ اكتوبر 1948، وكان احتلال المالكيّة ضمن احتلال ما أصبح يعرف بـ«القرى السبع اللبنانية». استشهد في معركة المالكية عدد من جنود الجيش اللبناني على رأسهم قائد الحامية النقيب محمد زغيب (وقد سمّيت ثكنة الجيش في صيدا تيمّناً باسمه وتخليداً لذكراه) حيث منحه الزعيم العام قائد الجيش فؤاد شهاب وسام الأرز من رتبة فارس.
سجل حافل بالانتصارات
لم يتأخّر الجيش في تلبية واجبه الدفاعي، مقدّماً التضحيات الجسام على مذبح الوطن، حيث أدّت الوحدات العسكرية اللبنانية قسطها في حرب حزيران/ يونيو العام 1967، إلى أن كانت المواجهات المباشرة العام 1970، في منطقة سوق الخان - حاصبيا، وعلى محوري بيت ياحون - تبنين وكفرا - ياطر العام 1972، حيث سجل الجيش اللبناني انتصارات مذهلة بوجه العدو الاسرائيلي. وقد تمكن احد الجنود من آل الزغبي من ان يدمر بدبابته سبع دبابات اسرائيلية، قبل ان تقوم الطائرات الاسرائيلية بقصف دبابته وإصابته بجروح وحروق، وقد أمر الرئيس سليمان فرنجية يومئذٍ بنقله الى الخارج للمعالجة، فيما جرى وضع دباباته المدمرة في ثكنة صيدا كنصب وتذكار يرمز الى البطولة، وكتب فوقها < الدبابة البطلة>.
ومن الانتصارات التي حققها الجيش في صور من العام 1975 مروراً باجتياحي 1978 و1982 وعمليتي تصفية الحساب العام 1993 وعناقيد الغضب العام 1996 ومواجهات عربصاليم وأنصارية العام 1997، وصولاً إلى عدوان تموز/يوليو العام 2006 حيث قدم الجيش حوالى الـ50 شهيداً في مواجهة العدو الاسرائيلي ، وفي موقعة العديسة العام 2010، وصولاً الى دوره اليوم في مواجهة الارهابيين في عرسال وفي كل منطقة في لبنان والعمل على تفكيك خلاياهم السرية.
الحرب اللبنانية
خلال الحرب اللبنانية عام 1975، تعرض الجيش للانقسام نتيجة واقع الوطن المنقسم على نفسه، وتعرضت ثكنات الجيش للاعتداءات والنهب والسرقة كما تعرض ضباطه للاغتيال خلال الاحداث على ايدي الاحزاب والميليشيات.. وخلال الاجتياح الاسرائيلي وهو الاجتياح الاسرائيلي الاوّل عام 1978، أرسل الجيش اللبناني تطبيقاً للقرار 425 فرقة عسكريّة إلى الجنوب لمشاركة قوّات الامم المتّحدة التي نُشرت هناك لأول مرة. وفي بلدة كوكبا، حصلت مواجهة بين هذه الفرقة والجيش الاسرائيلي.
حروب داخلية وانقسامات
توحدت قيادة الجيش عام 1977 في عهد الرئيس الياس سركيس وبقيادة العماد فكتور خوري ، الا انه بين عامي 1982 و1990 عانى الجيش اللبناني من إقحامه في المعارك الداخليّة، ووصلت فيه الأمور عام 1988 إلى انقسام قيادته نتيجة انقسام البلاد بين حكومة العماد ميشال عون العسكرية وحكومة الرئيس سليم الحص. ومن ثمّ جرى توحيد الجيش الذي كان قائده العماد إميل لحّود. وبعد انتهاء الحرب اللبنانيّة تمّ تطوير الجيش، فأنشئت أفواج التدخّل وعددها خمسة، كما أنشئ فوج مغاوير البحر والفوج المجوقل، وسريّة القتال الجبلي، وهي فرق زادت من عملانيّة الجيش ومن قوّة تحرّكه وسرعتها.
اغتيال الحريري والاستقلال الثاني
يعتبر منصور بو داغر انه في العام 2005 كان الجيش على موعد مع استحقاق مصيري جديد عندما هز الكيان اللبناني اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير من ذلك العام ، وما نتج عنه من تحرّكات شعبيّة كبيرة في وجه الوجود السوري ونظامه الامني في لبنان. حينئذٍ رفض الجيش مواجهة أو قمع المواطنين المعتصمين والمتظاهرين. وفي 26 نيسان/ ابريل من العام نفسه، انسحب الجيش السوري من لبنان تحت وطأة ضغط شعبي ودولي كبير.
... ومعارك نهر البارد
وكانت المعارك التي خاضها الجيش ضد تنظيم <فتح الاسلام> الارهابي في مخيم نهر البارد صيف 2007 من المعارك التي برهن فيها الجيش عن قوته وبطولته وأثبت مدى تضحيات قيادته وضباطه وعناصره، وقد أدت المواجهات إلى القضاء على التنظيم الارهابي واستئصاله بالكامل من المخيّم. وقد سقط للجيش اللبناني يومئذٍ 168 شهيداً.
التعاون والتنسيق مع قوات الأمم المتحدة
ويعتبر مصدر عسكري ان قيادة الجيش حرصت أشدّ الحرص على ترسيخ علاقات التعاون والتنسيق مع القوات الدولية انطلاقاً من دور الأخيرة في مساعدة الجيش على بسط الاستقرار في المناطق الحدودية، وفي تعرية مخططات العدو أمام الرأي العام الدولي، وانتهاكاته المتواصلة للسيادة اللبنانية برّاً وبحراً وجوّاً، وعدم التزامه الكامل بمندرجات القرار 1701 لاسيّما استمرار احتلاله لأراضٍ لبنانية وعدم قيامه بتسليم جميع خرائط الألغام والقنابل العنقودية إلى الجانب اللبناني.
ومن أبرز تفاصيل هذا التعاون:
- متابعة عملية إعادة تعليم الخط الأزرق بين لبنان وفلسطين المحتلة من قبل لجنة مختصّة تابعة للجيش بالتعاون مع فريق طوبوغرافي تابع لقوات الأمم المتحدة، حيث أنجزت التحقّق النهائي من إحداثيات 125 نقطة وتثبيت معالمها، كما أجرت القياسات اللازمة لنحو 50 نقطة تقع على الخط المذكور.
- إجراء التدريبات والمناورات والرمايات المشتركة بهدف رفع مستوى التنسيق الميداني بين الجانبين، والتحقق من القدرة على مواجهة أي طارئ.
- معالجة الحوادث والمشاكل سواء داخل المناطق الحدودية أو بين الجيش والعدو الإسرائيلي.
- توفير بعض الاحتياجات اللوجستية للجيش وتنسيق النشاطات الإنمائية والاجتماعية في المنطقة.
وفي مجال الأمن
يتابع الجيش تنفيذ مهمّاته الأمنية في مختلف المناطق اللبنانية. وفي هذا الإطار أعادت قيادته التأكيد على ان فرض الأمن هو حاجة وطنية شاملة، وأن الفوضى لن تكون في مصلحة أحد، ووجود الجيش في أي منطقة هو لحماية الاستقرار فيها وليس لمواجهة الأهالي أو الاشتباك معهم، كما أكدت أنّ الاختلاف السياسي في وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين هو جزء من الحياة الديمقراطية التي ينعم بها لبنان لكنّه من غير المسموح أن يَستغلَّ أيّ كان هذا الواقع للنيل من هيبة الدولة ومؤسساتها والاعتداء على أرواح المواطنين وممتلكاتهم. فالأمن هو بمنزلة الخبز اليومي للمواطن، وفي غيابه لا نهوض البتة اقتصادياً واجتماعياً وإنمائياً.
سليمان: محطات مشرقة
وفي كلمة سابقة له في ذكرى عيد الجيش، قال الرئيس السابق ميشال سليمان: <لا بد عندما ننظر في نشأة جيشنا وتاريخه من أن نؤكد حقيقة دامغة تربط بينه وبين قيامة لبنان واستمراره وطناً مستقلاً، موحداً، جامعاً لأبنائه كافة. فمسيرة الجيش تحفل بالمحطات المشرقة التي تشهد على عمق إيمانه بلبنان وعلى التزامه حماية كيانه والسهر على استقراره وأمنه. تبدأ المسيرة من أرض الجنوب حيث انبرى جيش فتيّ للدفاع عن حدود الوطن، فكتب التاريخ العسكري يومئذٍ أحداث معركة المالكية كشاهد على قدرة جنوده وتفانيهم. لقد استطاعت القوى العسكرية اللبنانية منذ نشأتها أن تكسب ثقة المواطنين ومحبتهم ودعم السلطات الشرعية ومباركتها. يستحق جيشنا أن يحظى باهتمامنا على مختلف المستويات، فنضع مخططاً تفصيلياً لتلبية احتياجاته الأساسية ومستلزمات تطويره، على أن ينفذ وفقاً لبرنامج زمني محدد يتناسب وما يتوافر للدولة من موارد. فهكذا نحفظ للجيش معنويات أفراده ونضمن العيش الكريم لهم ولعائلاتهم من جهة، ولعائلات شهداء الجيش الأبرار من جهة أخرى>.
العماد قهوجي: الجيش خشبة الخلاص
اما العماد جان قهوجي وفي كلمة له في احدى مناسبات عيد الجيش واطلاق كتاب <تاريخ الجيش>، فقد رأى انه <صحيح أن عمر الجيش اللبناني الرسمي قصير، ويعتبر فتياً بالنسبة الى الكثير من جيوش العالم، لكن الجيوش لا تقاس بأعمارها بل برسالتها ودورها وإنجازاتها. لذا نتطلع بكل فخر واعتزاز الى ما حقّقه جيشنا الأبي خلال مسيرته المفعمة بالبذل والتضحية والعطاء. فهذا الجيش لم يتوانَ لحظة عن القيام بواجبه الدفاعي والأمني، بدءاً من رفض الانتداب الأجنبي، مروراً بمواجهاته الطويلة مع العدو الإسرائيلي، الى التصدي للإرهاب وكل العابثين بأمن الوطن واستقراره، مقدّماً آلاف الشهداء والجرحى على مذبح السيادة والكرامة الوطنية، ومشكّلاً خشبة الخلاص في خضم رياح الفتن والمؤامرات التي كادت تتهدد الوطن في وجوده ووحدته، وتضع أكثر من علامة استفهام حول مصيره>.
واعتبر العماد قهوجي ان تاريخاً سطّره رجال الجيش بالدماء والتضحيات لهو أقوى من أن تعبث به رياح التغيير والنسيان، وان جيشاً مدركاً مسؤولياته وواجباته الوطنية، ويستمر في أداء رسالته بإيمان راسخ وإرادة صلبة، لهو جدير بحفظ إرث الأجيال وصون أمانة الشهداء، فلنتعظ من دروس الماضي، ونستلهم من صفحات تاريخنا المجيد شعلة الإيمان بغد مشرق مزدهر.
يبقى الجيش هو الحل، ويظل سلاحه الشرعي فوق اي سلاح، ولا خلاص لهذا الوطن إلا بجيش قادر يفرض سيطرته على كامل الاراضي اللبنانية، فلا تبقى هناك لا جزر ولا مربعات امنية ولا سلاح ميليشياوي، بل دولة آمنة مستقرة في حمى الجيش والقوى الامنية الشرعية.