إعلان مجموعة دول <البريكس> أي البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا منذ أيام عن بنك للتنمية سيكون مقره في مدينة <شنغهاي> هو حدث تاريخي لما يمكن أن يؤدي إليه من إمكانية تغيير حقيقي في المنظومة الاقتصادية العالمية. رأس مال البنك مئة مليار دولار سيتم إكتتاب ٥٠ مليار دولار في المرحلة الأولى وتكون المساهمات بالتساوي أي ٢٠ مليار دولار لكل دولة على عكس ما هو معتمد في البنك الدولي حيث تكون مساهمة كل دولة بحسب مستوى ناتجها المحلي.
رغم أن العملة التي اختيرت للإعلان عنه هي الدولار الأميركي إلا أن المجموعة أعلنت في الوقت نفسه عن تشكيلها احتياطي مالي من العملات بغير الدولار بقيمة ١٠٠ مليار دولار أخرى تؤمن الصين ٤١ مليار دولار منها، وروسيا والبرازيل والهند ١٨ مليار دولار لكل دولة وجنوب أفريقيا ٥ مليار دولار. هذا البنك هو رد <البريكس> على ما يرونه تسييساً من الغرب للبنك الدولي وصندوق النقد والمفترض أن يصبح القطب المالي المواجه للغرب. والاحتياطي النقدي هو نوع من الحماية المالية من سلطة الدولار ومن إمكانية انهياره في المستقبل.
الرئيس الروسي <فلاديمير بوتين> كان أكثر المهللين لهذا البنك واعتبره ضرورة لحماية اقتصادات <البريكس> من الأزمات المالية العالمية وتحرراً من هيمنة الغرب على القرارات الاقتصادية الدولية.
كتلة <البريكس> أصبحت تشكل اليوم ٤٢ بالمئة من سكان العالم و حوالى ٢٠ بالمئة من الناتج المحلي العالمي أي خمس الاقتصاد الدولي وأكثر من ١٧ بالمئة من حجم التجارة العالمية، وتوجهها إلى مأسسة التعاون البيني وإنشاء بنك دولي يختص في مشاريع التنمية والبنى التحتية هو أول إشارة عملية إلى أن كلمة الشرق المالية والاقتصادية، وبالتالي السياسية، أصبحت بوزن كلمة الغرب. كان هذا جلياً في الأزمة السورية من خلال <الفيتوهات> الصينية والروسية في مجلس الأمن ضد أي قرار يدين النظام السوري. كما يتظهر اليوم أيضاً في الأزمة الأوكرانية حيث يصول <بوتين> ويجول من دون حسيب حقيقي رغم بعض العقوبات الاقتصادية الخجولة من الغرب. نحن نشهد ولادة عالم بقطبين منذ عدة سنوات وهذا سيعني الكثير للشرق الأوسط في المدى المتوسط والبعيد.
وبدل انتظار ما ستؤول إليه <المواجهة> المالية بين الشرق والغرب، يمكن أن يتشكل قطب ثالث يلعب دور القطب الوسطي ولو في الظل. ليس على الطريقة اللبنانية بل من خلال القوة المالية والنفطية التي تتمتع بها المنطقة العربية والوزن الاقتصادي والتجاري لتركيا والتطور العسكري الذي حققته إيران. نعم، حتى إيران يمكن أن تصبح جزءاً من هذه المجموعة إن هي تنازلت عن أي أطماع توسعية. فالاحتياطات المالية لمجلس التعاون الخليجي تفوق احتياطات دول <البريكس> والغرب مجتمعة، كما أن الناتج المحلي للدول العربية وتركيا وإيران يفوق ٤ آلاف مليار دولار أي أكثر من ثلث الناتج لدول <البريكس>. ولو تحقق بعض الاستقرار السياسي والأمني، فإن أرقام النمو الاقتصادي في المنطقة العربية وحدها يمكن أن تصل إلى ١٠ بالمئة.
يجب أن لا يصطدم العرب بضرورة الخيار الاقتصادي بين الغرب والشرق، كما يجب أن يستفيدوا من عدة عوامل تلعب لصالحهم وتكون نواة لتكتل إقليمي متميز:
١- العمل المؤسساتي الذي تطور في مجلس التعاون الخليجي.
٢- السوق المهمة الموجودة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وتركيا وإيران.
٣- الملاءة المالية لدول الخليج.
٤- ثروة المنطقة بالنفط والغاز وحاجة <البريكس> والغرب إليها لعقود آتية.
هناك خيار <داعش> وبشار الأسد والمالكي وخيار التنمية والتطور. حتى اليوم لا يرى الناس العاديون في الشرق الأوسط إلا الخيار الأول. مسؤولية دول الخليج وتركيا وإيران أن تقدم اليهم الخيار الثاني بدل أن تمعن في إقحامهم داخل نفق نوري وبشار وداعشهما.
في لبنان، لن يكون هناك تأثير اقتصادي ومالي في المدى المنظور لإعلان <البريكس>. فنحن اخترنا دور المتلقي منذ زمن طويل. إلا أن المفاعيل السياسية لترسيخ القطب الشرقي الجديد تعني المراوحة والتراجع لأننا جزء من ساحة محمومة يتنازع فيها القطبان العالميان. ومع الأسف أكثر ما بيدنا هو حصر الأضرار، وحتى هذا الأمر لا ننجح في تحقيقه.