بقلم :الدكتور زياد محيو
الأبيات من قصيدة <إرَادَة الْحَيَـاةَ> للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدر/ وَلا بُدّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر ولا بُـدّ لِلَّيـْل أنْ يَنْجَلِــي.
هي أحلى ما قيل عن شعب يريد أن يعيش حراً كريماً. فلا بد أن تجري الأمور وفق إرادته، ويحقق مراده. جاءت قصيدة الشابي ناضجة مؤثرة في النفس خارجة من القلب، جاء شعره متأثراً بالعاملين النفسي والخارجي. هذه القصيدة استُخدمت أبيات منها في النشيد الوطني التونسي. لقد توفي أبو القاسم في عزّ شبابه عن عمر لا يناهز 25 سنة.
يشكل الدماغ، الفم واليدان الجزء الأهم والأكبر من منطقة الحركة عند الإنسان. والغذاء مفيد للصحة الجسدية، والأدب والشعر غذاء للصحة الفكرية. عَلّني أُبرهن أن الكاتب والطاهي متشابهان في بعض الأمور، فالأول يكتب والثاني يطهو. وللإثنان خيالهما وهدفهما لإرضاء المتذوّق. وكلاهما يخشى نتيجة عمله، حيث انّ ثمرة الجهد تكون ظاهرة، فيُحكم على الإنتاج بالنجاح أو الفشل، ويُنتقد محصوله عند النقصان بالإهمال، ويُمدح عند الفوز، ونشدّ على أيدي الكاتب والطاهي عندما يكون الإنتاج مفعماً بكل المكونات الضرورية للنجاح.
تتشابك المقوّمات لبناء الجسد والفكر عند وصف الطبخة بالشهية وما <بينشبع منها>، وتصويرالقصة بالحلوة وغير المملة والمقالة بالجميلة وبيت الشعر بالرائع. ولكن تشبيه <المتعة الفكرية> بمذاق <اللذة المحسوسة> هو شيء مختلف، لأن ذواقي الفكر ليسوا بالضرورة ذواقي الطعام والعكس صحيح، وجمعهما ممكن جداً.
عند وصولي إلى كندا هذه السنة استضافتني مجموعة من المهاجرين العرب في ندوة تحت تسمية <حكايات عربية>. عمر هذه الندوة ثلاث سنوات. الأعضاء المنتسبون هم أصحاب مهن مختلفة، مثل المهندس والشاعر أنيس بن عمّار من تونس، والمهندس والكاتب شريف رفعت والكاتب الدكتور أسامة علاّم، وسامي حنّا والكاتبة سماح صادق(المؤسِّسة) من مصر. أحببت هذه المجموعة من النساء والرجال، هم من بلدان عربية مختلفة واختصاصات متنوعة. هدفهم الأدب والقصص والشعر العربي. أعضاء هذه الندوة من معتقدات مختلفة. الكتابات الأدبية والشعرية هي الرابط المشترك. الدافع الحقيقي لهذه الإجتماعات الدورية هو التقدير والتحليل والنقد للكُتُب والأشعار. المكان والموعد في أحد مقاهي <مونتريال> كل يوم أحد. ومن اللقاء الأول، قررت الإنتماء إليهم لأنني وجدت ما أتوق إليه. هذا هو الموقع الذي كنت أبحث عنه. وقد حاز هذا الإجتماع اهتمامي، وتعلّقت به آملاً أن يدوم طويلاً. وشعرت أن هذا المنتدى الأسبوعي سيساعدني على تحمّل البعد عن الوطن والأهل والأصحاب وصعوبة الغربة ووحدتها، خاصة وأن الكتاب هو صديق وحدتي. ومع الجماعة، تتحقق الرؤية الكاملة عند تراكم الملاحظات للعمل الأدبي.
تحضير وكتابة الأدب والشعر مماثل لتجهيز وطهو الطعام. وأتاني هذا التشبيه عندما سمعت وشاهدت المشاعر والأحاسيس والخيال من محبي الأدب والشعر العربي الذين يتذوّقون أيضاً الصحن العربي. ثم شاهدت زوجتي تحضّر <المحاشي> وهي من أصناف مأكولات بلادنا، يلزمها الوقت وخبرة وخيال الطاهي للنجاح. إنه غذاء كامل يحتوي على البروتينات والدهنيات والنشويات، الى جانب المعادن والفيتامينات. لتحضير هذا الصنف يبدأ العمل بشراء الخضار من كوسى وقرع وباذنجان، واللحمة المفرومة والأرز والحمص والصنوبر للحشوة. إنّ التحضير مهمة صعبة حيث نَقْر الخضار بدقة وإفراغها من الداخل لإبقاء الهيكل الخارجي سليماً وغير مصاب بأذى، وبعد ذلك حشوها ووضعها في الحلة وتحضير مرقتها مع البهارات والملح لإعطائها النكهة المطلوبة. ثم عملية الطهي على النار، فتتشرّب المرقة. عند الطعام، يختار المتذوِّق ما يحلو له من هذه <المحاشي> حسب نوعها وحجمها مع أو دون المرقة. ثمّ يكون الحُكْم على الطبخة. وكانت أميرة تنتظر نتيجة عملها بفارغ الصبر، فتنسى تعبها عندما تسمع كلمة <يسلمو هالإيدين>.
كذلك يَودّ الكاتِب أن يرضي القارئ بكتاباته ، ليكون وضع التأليف جميلاً ومرتباً، ويحتوي على المزيج الضروري من الأفكار والمعلومات والأبحاث والوقائع، وعلى أن لا تخلو المؤلفات من الأحاسيس والإدراك والخيال والإبتكار، وأن تكون الكتابة سهلة ومفهومة. ولإستيفاء هذه الشروط، يحتاج الكاتب لبيئة حاضنة وتحضيرات وموهبة وحب لصناعة الكتابة، وعلى القارئ أن لا ينسى كلمة <يسلمو هالإيدين>.