بقلم سعيد غريب
يروى من قصص أواخر القرن التاسع عشر ان عائلة لبنانية أرسلت ابنها الوحيد الى أميركا للتخصص. وبعد طول غياب، عاد في ليلة عاصفة الى منزل أهله الجبلي، وراح من شدة تأثره يطرق الباب بقوة، لدرجة أن الوالد والوالدة المثقلين بالهموم ارتعبا وقاما من فراشهما وكانت الساعة تشير الى الأولى فجراً. ولم يخطر ببالهما أن الطارق <المزعج> هو ابنهما الواصل من سفر طويل في البحر...
بعد المعانقة ودموع الفرح والفخر بوصول فلذة كبديهما المتخرج الحامل أرفع شهادة، كتب والده في اليوم التالي رسالة وطلب من ابنه أن يعود الى أميركا ويسلمها الى مدير الجامعة <لأن الشهادة ناقصة بل غير مكتملة>...
وقف الابن مشدوهاً أمام مفاجأة غير سارة لم يتوقّعها ولم يفهم مضمونها. عاد الى أميركا وقرأ المدير الرسالة وقال له: <والدك على حق، تلزمك شهادة في الأخلاق>.
فهم الشاب الوسيم الرسالة. وعاد بعد سنة الى منزل أهله في ليلة شبيهة بالليلة التي عاد فيها قبل سنة، طرق الباب مرة واحدة ومن دون إحداث ضجيج... استقبله أهله بلهفة وقال له والده: <الآن اكتملت شهادتك ولم يعد ينقصك شيء...>.
ماذا حل بالعالم عموماً ولبنان بصفة خاصة بعد أكثر من مئة عام؟ وماذا يقول الغاضبون؟!
لبنان <عصفورية>، حمّام مقطوعة مياهه، ضجيج، ضوضاء، تشويه عمراني، طرقات لتكسير السيارات، سيارات بمئات الآلاف. أجهزة الخلوي لا تفارق أصحابها إلا لبضع ساعات من النوم المضطرب، قلوب مفعمة بالغضب والكراهية والحسد، وجوه صفراء، مخدّرة بالشاشات والأدوية... يركض الناس في سباق مع الوقت، <يقاتلون> كل النهار فقط لكي يبقوا واقفين على أرجلهم، يفكرون كيف يلغون بعضهم بعضاً، وسياسيون يقيسون درجة الخوف لدى الناس ومجهود يومي لارتفاع نسبتها، أمراض بالجملة ومستشفيات لا ترحم وأطباء يريدون أن يصبحوا مليارديرات، شهادات بالجملة للأكفاء وغير الجديرين، مقابل قسط مدفوع بالكامل، وأضحى كل عاطل عن العمل أستاذاً في الجامعة، وكل الطلاب خريجين بقبعات تتطاير في لحظة فرح حقيقية عند البعض، وزائفة عند البعض الآخر>.
إن هذه الحالة المزرية ناتجة عن انحطاط يضرب أفقياً كل ما يجده في طريقه، ولاسيما بعدما استنفد الإنسان معظم خيرات الأرض ولم يعد ثمة شيء تعطيه إياه، وتغلب على القيم وتحكّم بالطبيعة...
يضيف الغاضبون: لقد فقد الناس في لبنان وخصوصاً في السنين الأربعين الفائتة أغلى ما عندهم، خسروا الطبيعة التي كانت خير دواء لأوجاعهم وآلامهم الجسدية والنفسية...
أجيال بكاملها لا تعرف أسرار الطبيعة الأربعة، ولم تتعرف الى المخلوقات الأخرى، ولم يفطن <العلماء> المتعلمون - لا الذين استوعبوا هذه الأسرار - ان الجنس البشري هو حلقة متصلة بجميع حلقات الحياة الأخرى من حيوان ونبات...
لقد حذّر كمال جنبلاط في الستينات من القرن الماضي من المخاطر التي تنتظر الإنسان بفعل استهتاره بالطبيعة وتحكّمه بها. وتم التداول بكلمة بيئة منذ ان استخدمها جنبلاط لأول مرة في كتاب عنونه <أدب الحياة>...
<إنك لا تستطيع ان تحرّك زهرة من دون أن تهتز إحدى النجوم>.
لعلّ هذه العبارة التي استهل بها جنبلاط مقطع أدب الإنسان بالنسبة للطبيعة الخارجية نقلها عن الحضارة الهندية التي تأثر بها.
لقد ارتفعت صرخات العلماء في كل قطر للتدليل على محاولة الإنسان المعاصر، في طموحه المجنون ان ينتحر، وأن يجعل الطبيعة الحية تثمر معه على وجه الأرض.
ينقل جنبلاط عن أحد كبار العلماء <روجيه هايم>: <إن انتصار الإنسان إذا كان سيحصل، يجب ألا يكون في النهاية ناجماً عن فشل أو نجاح مخترعاته أو فوزه - المشحون بخطر الإبادة والإفساد - على ما كان سبباً لمجيئه على هذه الأرض>...
وإذا كانت الدول المتقدمة قد استقامت ولو متأخرة وتحاول التقليل من الخسائر مدعومة بمجموعات واعية وملتزمة الآداب العامة، فإن المسألة في لبنان لم تعد تحتمل التأجيل وربما فات الأوان.
لبنان البلد الوحيد في العالم المملوك شاطئه من أصحاب الملايين والمليارات.
لبنان البلد الوحيد، ربما المختلف شعبه أو النافذون فيه مع الشجرة والصخرة والأنهار والطيور والهواء والتراب.
لبنان البلد الوحيد بفضل فلاسفة الجهل فيه حيناً والطامعين أحياناً الذي يحوّل مجاري الأنهار والينابيع الى حيث لا تريد الطبيعة، وسهوله الى جبال وجباله الى سهول، كأن يصبح جبل الباروك مثلاً سهل الباروك وسهل البقاع - بفضل أتربة الباروك وصخوره - جبل البقاع.
لبنان لم يستطع تحويل نفاياته الى ثروة... وهو بفعل الردميات والنفايات آتٍ بما لم يستطعه الأوائل: سيحوّل قبرص الى شبه جزيرة يحدّها البحر من جهات ثلاث ولبنان براً من الجهة الجنوبية... إلا ان العقدة تبقى في ان القبارصة بطيئون وغير راغبين في ملاقاتنا...
في زمننا اليوم، زمن سياسة التجار وتجار السياسة، أصبحت الأسرار الأربعة هي الحكم والمال والتقنية والسمسرة وزيد عليها سر جديد: العداء المطلق للطبيعة.
إذا غضب الله على قوم، أرسل لهم حكاماً سيئين وجعل صيفهم شتاء وشتاءهم صيفاً... أليس هذا ما نلاحظه اليوم: طقس خريفي في عز تموز/ يوليو؟!
كبارنا أو من بقي منهم يؤكدون انها عاصفة وتمر وسيبزغ عصر نهضة جديد وهذه المرة أيضاً منطلقه لبنان.