لا يمكن لأحد أن يصدق أن الوجه الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، والصوت الرخيم الذي لفت الأسماع والألباب، وصاحب الإطلالة الواثقة والمحببة بـ«السكسوكة» الناعمة فوق الثغر الذي لا يتحدث الا بالعربية الفصحى، وهو ابنها تاريخاً وثقافة وانتماء بعيد عن الشاشة اليوم، شبه غائب في ما عدا مسلسل «الاخوة». عبد المجيد مجذوب رفعه قدره من عالم المال والنفط والغوص في أعماق البحار الى عالم الفن والشهرة والرسالة. فهل من ندم؟ وأين بطلنا اليوم؟ لم هو بعيد عن الشاشات؟ هل هو ذنب القيّمين على الدراما اللبنانية الذين لا ينبشون جواهرها الراسخة في البال، أم هو الحق على عبد المجيد الذي ينأى بنفسه عما يجري في الساحة الفنية وهي بأمس الحاجة اليه في خطواتها نحو التحسّن والانتشار العربي؟
هذه الأسئلة طرحتها «الأفكار» داخل مكتب رئيس تحريرها الصديق الصدوق للمجذوب وابن مدينته طرابلس. وبعد السلام وبعض الذكريات «الاقتصادية» يوم خسر عبد المجيد خمسة آلاف دولار في ربع ساعة اثر تحويله مالاً من الدولار الى العملة اللبنانية ــ هو الذي لا يعرف كثيراً عن هذه الأمور ــ كان السؤال الأول:
ــ أين عبد المجيد مجذوب اليوم؟
- بحمد الله، ما زلت أتمتع بالحياة وبصحة طيبة، أجلس في مكان مريح على أرض صلبة، ممتنّ لحسن طالعي، راضٍ كل الرضا، مرتاح لوضعي وسعيد جداً بأسرتي التي وفقني الرحمن في تكوينها.
ــ مم تتألف عائلتك الكريمة؟
- تتألف من خمسة أولاد متزوجين جميعهم آخر العنقود الدكتور أحمد الطبيب الجراح.
ــ لم يدخل أحد منهم عالم الفن والتمثيل مثل والدهم؟
- ابنتي منى رئيسة قسم الإبداع في محطة «ام بي سي» وابني خالد خريج قسم فنون التواصل، راديو وتلفزيون من جامعة «بي يو سي» يترأس الآن قسم الـ«ام بي سي 2»، وهو خبير في شؤون السينما، تشاهدونه كل صباح اثنين على قناة «العربية» أيضاً في برنامج متخصص حول أمور السينما العالمية وشؤونها.
ــ لنعد في «فلاش باك» سنوات طويلة الى البدايات. كيف دخل عبد المجيد مجذوب ابن طرابلس عالم التمثيل؟
- سافرت الى المانيا وتخصصت في مهنة في حقل التنقيب عن النفط في أعماق البحار. كنت غواصاً، أنزل الى أعماق البحر لأشرف على كل المفاصل الحديدية التي يركزها المتعهدون فأتأكد من أنها ثابتة قبل أن يأتي دور الحفر. ومن الغوص في الأعماق كان الغوص في الفن وبمحض الصدفة التي قادتني الى المخرج الكبير صبحي أبو لغد في ستوديو «الاتحاد». تزامن ذلك مع نكسة الـ67 وكان نضوجي في ذلك الزمن: قومي الهوى، شاب مؤمن بنداء عبد الناصر أن «قم ارفع رأسك يا أخي»، وبإعادة اللحمة بين أبناء الأمة ورفع الظلم الرابض بسبب الاستعمار القديم والاحتلال. كان الكل يريد أن ينتفض.. وبينما كنت أتحدث بشغف عن هذا الموضوع مع الموجودين في الاستوديو، سمعت صوت الإذاعي الكبير صبحي أبو لغد يناديني: «أستاذ عبد المجيد، اسمعني صوتك على الميكروفون». وهنا استطراداً أقول إنه منذ الطفولة أعرف أن صوتي «محط سمع».. كنا في البحر مرة مع أصدقاء، فصدحت بصوت عالٍ: «ياه يمّا وأنا عالعين شافني حسين وغمزني بعين»، فتوقف الجميع عند هذا الصوت الجميل وبت نجم السهرات العائلية.
ويضيف:
المهم، وبالعودة الى دخولي عالم التمثيل، أجبت عن سؤال الإذاعي الكبير الراحل صبحي أبو لغد بإيماءة برأسي أن: نعم، وتركت ذاك العالم من المال. كان عملي ما بين الماء والسماء. دخلت عالم الإذاعة وكان الاتحاد والإذاعة اللبنانية مع رشيد علامة ووحيد جلال ومحمود سعيد، رواد الساحة آنذاك. الأدوار التي عرضت علي في البدايات وكنت أنا الشاب الوسيم، المعتد بنفسي أرفضها، الى أن ساق لي القدر فرصة عظيمة. تعرفون أن أول من قام بالإنتاج الخاص كان رشيد علامة. وكان الدور الأول «اليد الجريحة» الذي قبلته بتهيب والحمد لله تقبلني الجمهور. وانطلقت المسيرة بالفصحى شأن كل البدايات. أما اللهجة العربية البيضاء المحكية فإن أول من ركزها فعلاً (أبو ملحم بدأها قبلاً على نطاق أضيق) كان مسلسل «حول غرفتي» الذي كتبه الراحل وجيه رضوان. لقد لاقى هذا المسلسل قبولاً كبيراً عند الناس كذلك «آلو حياتي» وغيره.
ــ هل كانت عقيلتك الكريمة تغار من هند أبي اللمع لا سيما وأنّكما شكلتما ثنائياً رائعاً؟
- سامحك الله على هذا السؤال. كانت زوجتي زينب وهند صديقتين وكانت علاقتنا العائلية متينة جداً. نحن أكبر من هذه الصغائر.
ويكمل عبد المجيد:
لقد اشتهرت كممثل أول في لبنان ومثلت «العقاد»، و«ليلى والبراق»، و«القناع الأبيض» و«حنين في الليل» الى أن شاء القدر أن أجتمع بهند أبي اللمع. كانت هند «سكريبت غيرل» تساعد زوجها انطوان ريمي ولطالما جمعنا الود والصداقة. جملت انفها وانطلقت تمثيلاً، وكان أول لقاء بالراحلة هند في «حول غرفتي» كما سبق وذكرت والذي تقبّله الناس كما لم يتقبلوا عملاً من قبل لا محلياً ولا عالمياً وتشكل على الفور الثنائي عبد المجيد مجذوب وهند أبي اللمع وكرت السبحة. بعد «حول غرفتي»، أصبت في الحرب إصابة بليغة ودخلت جسدي مئات الشظايا فانقطع وتر قدمي وبت أرمي رجلي أمامي رمياً وأنا أمشي. خضعت لعمليات في مستشفى الحسين الطبي في الأردن وكان الجراحون والأطباء المعالجون يدمعون لرؤيتي أنا الممثل المحبوب لديهم... جريحاً.
جريح في الحرب
ــ كيف أصبت وأين؟
- حدث أن زميلنا رحمة الله عليه إيلي ضاهر كان ضيفي في البيت يومئذٍ. وكنا أثناء الحرب والطرقات مقطوعة نمرر الواحد للآخر ما ينقصه في منطقته من خضار وفاكهة فهو يسكن تحويطة فرن الشباك وأنا في قصقص عند حي العرب. نقطة التقائنا كانت عند منطقة المستشفى العسكري لتبادل حاجياتنا، وعندما يأتينا عمل ما، كان ايلي يبيت عندي فنذهب سوياً الى الاستوديو في اليوم التالي. نزلت من بيتي للتبضع وفجأة بدأ جنون القصف ينهمر من كل صوب . كانت الفوضى مسيطرة في حرب السنتين. رأيت طفلاً لا يزيد عمره عن ست سنوات مصاباً لا بل مشلّعاً. ركضت صوبه ورفعته عن الأرض وهو كتلة دم تنزف، سقطت القذيفة الثانية قربي وأصبت بالشظايا. رفعني شاب من الدفاع المدني طويل الشعر الى مستشفى بيروت لأصحابها من عائلة نوفل.
ــ لنترك الحرب ونعود الى الفن، ماذا تفعل الآن؟
- عندي مؤسسة صغيرة أسستها في العام 1983 اسمها «الخلود» للإنتاج التي أنتجت ما لا يقل عن 5 آلاف وثائقي فضلاً عن أفلام كرتون للأطفال ذات مستوى، كما أنها أنتجت مسلسلات «ندم» و «مع فائق الاحترام» من كتابة الراحل أنور تامر صديقنا الطرابلسي أيضاً، كما أنني أول من نفذ الكتاب المسموع.
الأستاذ «كلا»
ــ لكنك غائب عن السباق التلفزيوني...
- أنا رافض. وصلت الى وقت لقبوني فيه بـ«الأستاذ كلا»، يأتوني بأعمال لا تليق بثقة المشاهد التي أولاني إياها وبعشقي لمهنتي واحترامي للمرتبة التي بلغتها. عرضت علي مؤسسة محترمة دور شخصية جديدة لم يسبق لي أن قدّمته وتم تصوير المسلسل في أبو ظبي وأعني به مسلسل «الاخوة» الذي يمتد لتسعين حلقة يعرض يومياً على قناة «أبو ظبي الأولى» و«سي بي سي» و«سي بي سي دراما» وفي الأردن.
ــ انت ضيف شرف فيه؟
- صحيح . كذلك فإن محطة الـ «ال بي سي» شريكة فيه لكن لا يحق لها العرض الأول.
ويزيد بعد صمت قصير:
لم أعد عبد المجيد مجذوب بطل «آلو حياتي»، فأنا الآن جدّ لصبية. الزمن يتطور وكذلك الأدوار. كنت في السابق «فتى أول» وأنا اليوم «غران برومييه». ( كبير أول). هل يمكن لحسين فهمي مثلاً الآن أن يلعب دور طالب جامعة؟ محمود ياسين يحترم نفسه وقد لعب مؤخراً دور جد لخمسة شباب .
ــ مع من تعاملت من الممثلين المصريين؟
- كلهم تعاملوا معي، فأنا أنتجت عملاً بعنوان «أواخر الأيام»، ما زالت الدراما العربية حتى الآن تتحدث عنه وقد مثل فيه يوسف شعبان، أحمد مظهر، محمد توفيق، توفيق الدقن، رغدة، محسنة توفيق، محمد العربي، ومجموعة كبيرة أخرى. أنا دخلت مصر كمنتج منفذ لحساب دولة قطر ونزلت في فندق الشيراتون ووقعت العقود مع الممثلين.
ــ ماذا تفعل الآن. هل من تحضير لجديد مقبل؟
- لا شيء. أحضر صنارة صيد السمك، أكتب الشعر في الليل حيث تغزر الأفكار وينهل الوحي.
ــ هل المشكلة في النصوص التي تعرض عليك وعندنا كتاب ناجحون بينهم شكري أنيس فاخوري وكلوديا مرشيليان وغيرهم؟
- لشكري أنيس فاخوري تجربة مرة معي. عرض علي سيناريو، قرأته فاعتذرت.
ــ عن أي دور؟
- «العاصفة تهب مرتين».. شيء من هذا القبيل.
ــ هل استدعيت يوماً لدور في مصر وفنانون لبنانيون عديدون قدموا أدواراً فيها؟
- لم اضطر على الإطلاق. نشأت نجماً في بلدي ولم أكن بحاجة لأحد آخر يرتفع بي الى مرتبة النجومية. وفي استفتاء أجري مرة في مجلة محترمة عن أحب نجوم الشاشة الصغيرة في العالم العربي، كنت الأول بفارق أربعة آلاف صوت عن الذي حلّ من بعدي في المرتبة الثانية.
ــ منذ أيام رحلت الفنانة ليلى حكيم.. ماذا تقول في هذا الرحيل؟
- رحمات الله عليها.. أخذت حقها من العمر.. (ويستحضر بصوت عالٍ بيت الشاعر زهير أبي سلمى)
. سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم..
كتاب محمود فاعور
ومن ثم يضيف مبتسماً:
إلا أن صديقي الدكتور محمود فاعور أحب أن يجمع في كتاب من رحلة العمر أسفاراً وتنقلات هي من طبيعة سيرة الطبيب الجراح الناجح من مؤتمرات الخ.. فاذا به في آخر هذا الكتاب، ورداً على الشاعر أبي سلمى يقول: «مع اعتذاري من كبيرنا وأستاذنا وفيلسوفنا» أقول :
ــ برأي عبد المجيد مجذوب من كانت أفضل ممثلة تلفزيونية في لبنان؟عشقت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولاً طال عمرك ينعم.
- حسب المقصود بـ«أفضل».. أكاديمياً أو شعبياً. إن عنيتم بمنطق التلفزيون وبمنطق مهنة أن تكون ممثلاً تلفزيونياً فهي بلا شك الراحلة هند أبي اللمع جماهيرياً، لكن أكاديمياً ومسرحياً فإن السيدة نضال الأشقر لا يرقى اليها شك. الآن تغيرت الدنيا ولدينا وجوه شابة لكن هند كانت الأكثر سحراً وتأثيراً في قلوب المشاهدين.
ــ لم تراجع المسرح برأيك في لبنان بعد شوشو؟
- وما الذي لم يتراجع في لبنان؟ حياة الناس أم القيمة الوجدانية؟ ألم تنتقل الحياة بصورة بشعة ومدهشة من الروح الى المادة؟ من القيمة الى السفّ؟ من الأخلاق الى انعدامها؟ من الطبيعي وسط كل هذا أن يتراجع المسرح. حتى الفن الذي نشهده الآن مع احترامي لكل الزملاء ومشاعرهم ومواهبهم واندفاعاتهم وانطلاقاتهم ورغائبهم هو فن هابط، ساقط بالمقياس الوجداني والمنطقي والثقافي والعلمي اذا ما قررنا أن نتحدث عن رسالة الفن.
ــ هل تجده عصر المغنيات والمغنّين؟
- هو عصر الانحطاط العقلي والإنساني، عصر الجنون البشري الذي بلغ مرتبة لم يعد فيها مقتنعاً بأي شيء وعلى كل الأصعدة. الجنون مسيطر في العالم كله.
ــ في ساعات الفراغ الى من تستمع؟
- أنا أحترم كل عطاء جميل، كل ما ينتزع من صدري الـ«آه». أستمع طبعاً للسيدة فيروز ومن أفضل منها لأستمع اليه؟ هل أستمع الى هيفا وهبي؟ لكن هناك بدون شك أصوات طريفة طيبة فأنا أطرب مثلاً للصوت «الزغيّر» لنانسي عجرم.
ــ هل نحن في عصر هيفا وهبي؟
- بمقياس العصر الذي أسلفت وتكلمت عنه طبعاً.. وهل هو عصري أنا؟ «نحنا بتوع أبو الطيب المتنبي وأحمد شوقي» وإنما الأمم الأخلاق..
ــ على هذه الحال، أنت رجل يعيش في الماضي وليس في المستقبل..
- أبداً.. أرفض هذا السف.. أريد أن أرتفع به وأسأله الى أين أنت ذاهب؟ البشرية انحدرت في كل شيء، فهل أماشيها؟
ــ متى سنراك تملأ شاشتنا من جديد؟
- أنا جاهز لكل قيمة، ومقدر تماماً بالمنطق والعقل بأنني قطفت زماني حتى الثمالة وأنني بحكمة الله آية لكل شيء نهاية. أنا جيد، أشارك وأصنع كل ما يعود بالخير، كما أنني أحترم العقل الذي أعجب بي وسعيد بالأجيال الجديدة الطاهرة الطيبة التي تتعرف علي بسبب الإعادة لمسلسلاتي، فتجدون جماهيري تتعاظم وتزيد.
ــ عندما تشاهد نفسك على التلفزيون بعد كل هذه السنوات، ماذا تقول؟
- «أتطلع إلى نفسي وأعطيها قبلة». وأنا أقسم لكم أنه إن لم يجبرني ظرف قاهر فإنني لا أشاهد نفسي لأنني شديد وقاس جداً. المشاهد يكون غارقاً في الدهشة وحسن الإبداع وأنا أقول: آه منك يا عبد المجيد، كان يجب.. وكان يمكن..
ــ تلفزيون لبنان يمر بمحنة، كيف السبيل لاسترجاع بريقه المفقود؟
- لنسأل قبلاً كيف للبنان أن يسترد بريقه؟ فحين يسترد هذا وهجه، فإن كل ما فيه سيتوهج من جديد.